مجتمع

عملية ردع العدوان هل تمتد لتشمل ردع العدوان الإسرائيلي؟

كيف يمكن لسوريا أن تعيد بناء مجتمعها، دولتها، وقرارها السيادي، دون أن تُختطف مجددًا في معركةٍ ليست معركتها وحدها؟

future صورة تعبيرية (عملية ردع العدوان هل تمتد لتشمل ردع العدوان الإسرائيلي؟)
بعد ساعات من سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر على يد هيئة تحرير الشام، شنت إسرائيل عملية عسكرية توغلت على إثرها داخل المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ في سوريا.
 
تلا ذلك تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول ضرورة جعل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء مناطق منزوعة السلاح، تزامنًا مع تقارير إعلامية إسرائيلية كشفت عن اجتماع سري عقده نتنياهو مع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس لمناقشة تثبيت الوجود العسكري الإسرائيلي في المنطقة العازلة وجبل الشيخ.
 
جاءت هذه التصريحات في سياق استغلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا وسط أصوات عربية تطالب الإدارة الجديدة تحت قيادة أحمد الشرع، بالتحالف مع قوى أخرى مثل إيران وروسيا في مواجهة إسرائيل وبدء المواجهة المباشرة مع إسرائيل والدخول في الحرب التي تجرهم إليها.
 
مع الإيمان التام بأنّ السوريين قدّموا تضحيات هائلة غير مسبوقة تاريخيًا، إلّا أنّ سقوط الأسد لا ينتمي إلى مسارهم وحدهم، بل هو نتاج لحظةٍ إقليميةٍ متشابكة.
 
وهذه الفكرة مقدّمة ضرورية لفهم أي مساراتٍ مستقبلية في سوريا؛ فبدون الإقرار بها، ستبقى النظرة إلى الإدارة السورية الجديدة مشوبة بالريبة والشكّ، خصوصًا من قبل بعض أصحاب التصوّرات الرومانسية عن الأمة الإسلامية أو العربية وتاريخها وصراعاتها.
 
وليس الأمر لأنّ أحدًا ينكر عليهم انتصارهم، بل لأنّهم وصلوا إلى دمشق عبر معادلاتٍ لم يحدّدها السوريون وحدهم. وأي تحليلٍ غير مركّب واختزالي سيسهل عليه الانجراف سريعًا نحو حوارات المؤامرات والجواسيس والتطبيع.
 
ما حدث في سوريا هو نكبة بالمعنى الحرفي، نكبة شعب كامل بحجم نكبة 48، ليس فقط من حيث عدد الضحايا وتدمير مجتمعٍ بأكمله، بل أيضًا من حيث تفكيك التصوّرات العربية المشتركة عن العدوّ والصديق، وتعزيز انقسامٍ طائفيٍّ لم يحصل بهذا العمق من قبل في تاريخ العالم الإسلامي، وتعميم حالةٍ من الكراهية والشماتة.
 
هذه النكبة ليست حدثًا محصورًا في سوريا، بل زلزالًا طال المشرق العربي برمّته، وهدم الأساطير المؤسسة التي عاش عليها القوميون العرب والإسلاميون لعقود. بعض هؤلاء، في سبيل الحفاظ على نقاء تصوّراتهم الأيديولوجية، اتخذوا مواقف غاية في الانحطاط بتأييد نظام الأسد، أحد أحط النظم السياسية التي عرفها البشر.
 
لذلك، لا يجوز الاستخفاف بهذه النكبة ولا التذاكي بتصوير من يطالب السوريين بالنأي بسوريا عن صراعاتٍ إقليمية بأنه أناني أو ساذج. ولا يجوز أيضًا التنازل عن محاسبة المسؤولين عن هذه الفاجعة، وعلى رأسهم عائلة الأسد وروسيا وإيران وحلفاؤهم في لبنان والعراق.
 
لكن بالدرجة نفسها، لا يمكن مطالبة السوريين بأن يكونوا مجرّد بيادق، وأن يُتوقّع منهم يقاتلون لأحد عشر عامًا عدوًا هنا، ثم يتحالفون معه غدًا ضد عدوٍّ مشترك هناك لتبرير سردية المقاومة والعدوّ المشترك والأمة الواحدة الخالدة.
 
السؤال ليس ما إذا كان السوريون ضد إسرائيل أو لا، بل لماذا يتوقع البعض أن يكون السوريون في خدمة نظريات رومانسية ساهمت هي ذاتها في خلق غطاء نظريّ لذبح السوريين ونحن هنا لا نتكلم عن ذبح مجموعة هامشية؛ نحن نتحدث عن سوريا، قلب المشرق العربي، شعبٌ عريق وثقافة وطنية حداثية لا تقلّ شأنًا عن مثيلاتها في أي مكانٍ في العالم.
 
لماذا يُطلب منهم أن يبقوا أسرى لتصوّرٍ أيديولوجيٍّ عن الأمة كجسدٍ واحد، بينما أثبت التاريخ القريب أنّه لا أمّة موحّدة، ولا عدوًّا واحدًا، ولا صديقًا واحدًا، بل معسكرات تتغيّر وفق مصالحها؟
 
سوريا اليوم أمام لحظة إعادة صياغةٍ للصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. صياغة نابعة من سردية الربيع العربي نفسه عبر وضع سؤال الديمقراطية والحريّات والمواطنة والدولة الحديثة مُكتملة الشرعية جنبًا إلى جنب مع سؤال تحرير فلسطين عكس سرديات الممانعة والبعث والناصرية
 
وإسرائيل دولة استثنائية تعادي كل القوانين الطبيعية القديمة والحديثة، وتفرض حالة استثناءٍ دائمة على محيطها، ولا ترى في أي حراك سياسي ديمقراطي عربي إلا انتقاصًا من أمنها القومي.
 
التطبيع معها مهما بلغ لن يجعلها دولةً طبيعيةً، بل سيجعلنا نحن في حالة استثناءٍ بالتالي الصراع والتناقض مع إسرائيل من مصلحة أي راغب في بناء دولة حقوق وحريات في سوريا . من هنا فإنّ وجود ديمقراطيات عربية حقيقية وتمثيل صادق لمصالح شعوب المشرق سيقود حتمًا إلى مواجهةٍ جديدةٍ لكسر استعمار إسرائيل وحالة الاستثناء التي فرضتها على المنطقة برمّتها، بما في ذلك السوريون والعرب عمومًا.
 
إنهيار التصوّرات المشتركة ليس مؤامرة أو تخريبًا، بل تعريةٌ لحقيقةٍ طالما جرى إنكارها: الأمة لم تكن موحّدة، والعدوّ لم يكن واحدًا، والأولويات لم تكن متّفقًا عليها. والأهمّ من ذلك، أنّ المقولات القديمة التي تبنّاها القوميون والإسلاميون لم تصمد أمام اختبارات الواقع.
 
سوريا الجديدة لا يمكن أن تبني نفسها تحت وطأة أوهام القومية العربية أو الإسلام السياسي، مثلما لا يمكنها أن تبني ذاتها على التبعية لأي طرفٍ إقليمي، فتتحول إلى دولةٍ فاشلةٍ طرفية في مشروع إسرائيل والخليج للشرق الأوسط.
 
هناك واقعٌ جديدٌ يتشكّل، والأسئلة الحقيقية ليست حول ولاءاتٍ نظرية، بل حول كيف يمكن لسوريا أن تعيد بناء مجتمعها، دولتها، وقرارها السيادي، دون أن تُختطف مجددًا في معركةٍ ليست معركتها وحدها.
 
وليس المقصود هنا الدعوة إلى العزلة أو تجاهل الإكراهات الإقليمية، بل التأكيد على أنّ السوريين وحدهم -لا القوى الإقليمية ولا الرؤى الأيديولوجية الجاهزة- من يحقّ لهم رسم خط سيرهم في المرحلة المقبلة، بعيدًا عن تكرار الثنائيات القديمة
 
كما أن سقوط الأسد صحيح نتاج لحظةٍ إقليميةٍ متشابكة، بصرف النظر عن إرادة السوريين وحدها. هذا لا يعني أنّ السوريين مجبرون على الانسياق التام خلف أي محور إقليمي بعينه، ولكن فرض عليهم خطاب سياسي برجماتي يستغل التناقض الذي أطاح بالأسد وخلق السلطة السورية الجديدة ابتداء المقصود أنّ من حق السوريين -باعتبارهم أصحاب البلد- رفض الانخراط الأعمى في تحالفات لا تراعي مصالحهم.
هناك فارق بين أن تكون سوريا جزءًا من واقعٍ إقليمي لا مفر منه، وبين أن تتحوّل إلى أداةٍ لمشاريع الآخرين باسم الصراع المصيري أو العدوّ المشترك.
 
بالتالي، النأي بالنفس هنا يشير إلى التمييز بين التورط الكامل في أجندةٍ خارجية خليجيه وايرانية أو غيره ، وبين الاستقلالية النسبية التي تتيح للسوريين تحديد أولوياتهم ومصالحهم الوطنية. المقصود هو رفض استخدام هذه العناوين الكبرى لإخضاع السوريين لرؤى لا تترك لهم حرية بلورة برنامجٍ وطني حقيقي. يعمل على حماية مصالح السوريين وتأمين حريتهم وكرامتهم
 
أما من يريد أن يضع سوريا في معسكرٍ إقليميٍّ محدّد، فعليه أن يسأل نفسه أولًا: هل كان هذا المعسكر إلى جانب السوريين يوم كانوا يُذبَحون؟

# سوريا # إسرائيل # ردع العدوان

الساحل: الطريق نحو الخيار الصعب
بين الأدب والسياسة: بحثٌ في ذاكرة الألم
غزة: هذا الموت يأتيكم برعاية أسلحة الذكاء الاصطناعي

مجتمع